كتاب “لوحات حُب ..”
Posted أكتوبر 19, 2009
on:بعد يومٍ عصيب كاليوم .. ارتميت في أحضان أول كرسيٍ من الخيزران .. رامياً بثقل همومي على الطاولة المستديرة أمامي .. وزفرةٌ طويلة .. اتبعتها .. علّ ما يجول بداخلي يهدأ .. ولتهدأ كل العواصف التي تدور ما بين قلب مولّع وعقل مزدحم ..
بعد عدة دقائق مرت .. رفعت أغمام التعب عن عيوني .. ونظرت لمن يجلسون حولي ..
كلٌ غارق حد الثمالة إما في كأس شاي .. أو في حديثٍ رتيب ..
لفت نظري .. أحدهم في الزاوية المقابلة .. تحت لوحةٍ ذهبية .. يجلس ويكتب .. ينظر في الفراغ قليلاً ثم ينكب على قلمه مرة أخرى .. لفت نظري من سرعة الكتابة الغير متناسبة أبداً مع عمره الواضح في تجاعيد وجهه التي تقول بصوت مسموع, “أمضيت .. في العمر .. كثيراً ..”
أفقت من دوامات التفكير التي أحاطت بي .. بنظرة حانية منه .. وإشارات متلاحقة لي بالانضمام إليه في زاويته ..
اقتربت منه .. وكان مرةً أخرى في لحظات اندماجه مع أوراقه المتناثرة على الطاولة ..
جلست بعد كلمات ترحيب خجولة .. ونظرات متلاحقة لأرى ماذا سيحوي الحديث المنتظر ..
رفع نظره .. بهدوء ساحر, “بني, سأقصُّ عليك قصةً وعبرة .. ولك مني أن تتذكرني ما بقي لك من عمر ..”
جعلني .. حديثه أكثر هدوءاً وترقباً للكلمات التي ستتلاحق ..
بدأ يبحث بين أوراقه الكثيرة .. اخرج ورقة مكتوبة بالخط العريض وبلونٍ أسود “لوحات حُب”
“الحب إدمان .. له ذات التأثير والنشوة لأي إدمان آخر .. برقيٍّ أكثر .. “
أبديت امتعاضي الصامت .. ابتسم وقال ” يا بني .. صدقني .. عشته ووهبته ذاتي .. فسموت بهِ .. وستعرف آنفاً” أخرج صورة عتيقة بأطراف قديمة, ومصفرة لحد المرض ..
أمسكتها, فإذا بها صورة لامرأة من الستينات .. تقف بلا ملامح إلا ابتسامة .. ووجه صامت .. لم تعني لي شيئاً حينها .. استعادها ونظر لها بإمعان وسكب من عيونه مشاعر باتت أوضح وبدأت أخمن من هيَ صاحبة الصورة,
انتزعني من تخميناتي بقوله” أحببتها .. لدرجة الجنون .. أحببتها ولو عرف بنا عنترة لترك ليلى خجلاً .. مما يدعيه حباً ..
رفعت حاجبي .. كون ما يدعيه .. أدبيٌ لدرجة كبيرة .. عنترة وليلى وحب واعتزال .. هذا كثير على عقلي الذي لم يتوقف عن التفكير بأشياء جانبية .. أرهقته ..
رشف من فنجانه .. رشفة طويلة .. وثم أطلق زفرة اتبعها بكثير من الكلمات حكا فيها القصة ..
“كنا .. كعصفورين .. كل صباح, وكل مساء ..
نتقابل ..
كنا نرسم قصتنا .. قصة أجمل من تُقال .. لا كلمات تعطي للحظات التي نعيشها .. حقاً .. ولا لغةً تكفي وصفاً ..
قبل .. صباح العمل .. أصبّح عليها بالسكّر الذي تذره في حياتي .. بالنكهة التي تجعل حياتي تعبق بها ..
أقف كل ليلةٍ .. تحت شباكها .. أقصّ عليها حكاية قبل النوم ..
ترسل لي قبلات مع النسمات العليلة ..
تترك ورقة معطرة برائحتها, بحروف ترسم لي كلمة “أحبّك” .. تتهادى من شباكها بحركة بطيئة .. التقطها واشتمها لأصل لثمالتي في دقيقة وأقل ..
هذا وفي كل يوم ..
حتى .. “
هنا اعتلى الصمت .. ورشف رشفة أخرى ..
أنا تركت المكان .. ابتعدت لأنظر بتمعنٍ أكثر في الكلمات وما خلفها.. تركت كل الضيق الذي أشعر به, همومي وآلامي .. قصته أعرفها جيداً .. ربما؟ .. يستخدم ذات الكلمات التي أقوم بها ولكن في زمان آخر “صباح السكّر” “النكهة” “اللحظات” “ورقة معطرة ..” “لوحات” صدفة هيَ .. أسكتُّ بها عقلي الذي بدأ ينظر بعين الشك أكثر..
“مممممم, جيدة ولكن ليست كفاية .. ” مشيراً لفنجان القهوة الذي يصاحبه منذ جلست .. “أتذكر إلى الآن .. اللحظة الأولى التي رشفت قهوتها .. باللحظة السابقة عندما اقتربت مشتعلةً خجلاً .. ونظرة خاطفة .. بمعانٍ أكثر .. النكهة إلى الآن في فمي .. ولم أشرب مثلها قط .. إلا عندما تنتظرني هيّ وفنجانيّ حبٍّ على حافة كل صباح”
هنا .. ارتجف صوتي وأنا أسأل, “ياعم, متى كانت خطوبتكم؟” أجاب بثقة وبصوت رصين “10 – 2- 1964” ..
“تاريخنا هوَ .. باختلاف الأعوام !!! ” أسررتها في نفسي .. وابتلعت <ريقي> بصوت مفضوح ..
استهل الحديث “أأكمل؟” بعدما رأى حيرتي وتعرقي .. “ستعرف في النهاية .. كل الحكاية” ..
“كانت زيجتنا الأجمل بهدوئها في زمن الصخب .. الأرقى في زمن الدونية ..” وأردف مشدداً على التاريخ ” بعد خطوبتنا بسنة وثلاث شهور” ..
عرقي بارد .. يزداد .. أكثر ..
“أنجبنا من البنين .. شاباً يدعى مجد .. والمجد للهِ في العُلا .. وصبيةً تدعى ميرا بأنوثة لاتينية ..
مجد الآن .. مُجِّـــد واسمهُ يتردد الآن, في المحافل .. كأول حاصل على الدكتوراه في الهندسة النووية يقوم باكتشاف طاقة نظيفة .. تماماً ..
ميرا .. مبدعة ورائعة كأمها تماماً .. تلك الطفلة الدائمة في نظري .. تشارك في الأوركسترا العالمية .. كعازفة بيانو .. وتنتقل من بلدٍ لآخر حاملةً على عاتقها .. نهجاً جديداً في العزف على القلوب ..”
..
مجد وميرا .. بأسمائهم وانجازاتهم .. هنا وقفت .. “ما القصة يا عم؟ وأي صدفة هذه؟ ورأسي لا يحتمل فكرةً أخرى .. “
في ذات اللحظة .. شممت عطراً أعرفه جيداً .. يفوح من حركة امرأةٍ .. جميلة رغم علامات الكبر .. وبحنان فائض .. ابتسمت ..
أعرف العينان .. لا والابتسامة أيضاً .. أعرفها جيداً .. كيف ولا .. وأنا أحفظ الأشكال جيداً ..
نظرت للرجل مرةً أخرى .. أعرفه ..
يشبهني؟! تشبهها؟!
“من أنتم؟ بحق الله ..”
“نحن أنتم .. “
هنا .. تراخت كل ما فيَّ من عضلات ..
“كيف؟ وماذا .. ” وآلاف الأسئلة تزاحمت على حافة لساني الذي لم يعد يودّ أن ينطق أكثر ..
“لا تُرهق ذاتك أكثر .. بل واترك متعة الحياة لحظة بلحظة معاً .. واستكشاف المستقبل معاً .. وما يهمّ فعلاً .. هو أنكم معاً .. ” قال هوَ ..
همست هيَ, مقتربةً مني “ما زلت أحب العجوز أكثر كل يوم .. وكلما مسك يدي .. اشتعل خجلاً .. ويذيبني بكلماته التي يجيد العزف عليها .. وأراه رجلاً .. ولا كلِّ الرجال .. ” رمقته بالنظرة التي أحب ..
وسحبت نفسي لكرسيي الذي شهد كل الموقف .. “الصورة .. أرني الصورة يا عم مرّة أخرى “
“ذات الصورة التي أعطتني إياها منذ أيام قليلة ولكن .. الزمن محا الكثير من التفاصيل .. لم يُبقي إلا الابتسامة .. إنها هيَ ..”
ابتسما.. ابتسمت أكثر ..
الشُكر .. لربٍ أرسل إيماناً وثقةً لي .. على جناحِ حلمٍ, أعرف وأنا أعيش خلجاته .. بأنه حلم ..
سنكون معاً .. والعمر متقدمٌ بنا .. سويةً كما تعاهدنا ..
والكتاب الذي يُكتب هو كتاب عمرنا .. وذكرياتنا التي تعاهدنا على كتابتها .. لحظةً بلحظة ..
وإن كان الاسم مختلفاً .. فحبنا كان وما يزال وسيبقى مختلفاً .. في زمن العادة والتشابه ..
“حان موعد الاستيقاظ .. ” ودعت نفسي بحرارة .. ودعتها بحرارة أكثر .. واستيقظت بكل هدوء .. وببريق .. يلمع .. وتفاؤل بسعادة مقبلة ..
أنس
14 تعليق إلى "كتاب “لوحات حُب ..”"

الأسلوب أكثر من رائع و جعلتنا ندخل تماماً في القصة بطريقة غريبة ..
جميلة هي لوحات الحُب لو تُتوج كُلّها بنهايات مميزة كمجد وميرا ..


اخي العزيز اتمنى ان نتواصل لان في فكره حمله لتطوير المدونات السوريه واتمنى انك تشركني الحمله ونعدل الطريقه


ما شاء الله عليك ,, فعلاً روووعة وفوق الخيال .الله يسلم إيديك


عن جد شي مو طبيعي أستطيع أن أقول لك ان الدموع لا تكف عن الإنهمار من عيني ؟؟


لوحة جميلة جدا ، عجبتني كتير جملة : “ كانت زيجتنا الأجمل بهدوئها في زمن الصخب .. الأرقى في زمن الدونية ..”


راااااااااااااااائع و أكبر من التعليق
مودتي


رائــــــــــــــــــعة .. ماعندي شي احكيه ..قلبي صار يرف انا وعم بقرااا
ماشاءالله عليك عنجد ماعندي شي احكيه اكتر ..
بشكر الصدفة يلي مرئتني بصفحاتك


ذبت .. بل غرقت …
أسرني
سحرني
جمدني..
كل حرف من حروف كلماتك
ماهر

أكتوبر 20, 2009 في 3:30 ص
في اعتقادي أن الوصف الذي وصفته .. هو من أحلى لوحات الحب .. والذكريات التي تنثر الجمال عليها.